[SIZE="6"]تقول الرواية المسيحية إن العائلة المقدسة فى دخولها لأرض مصر كانت تتعمد ارتياد طرق غير مأهولة، ولذلك كانت أول محطة تستريح فيها عقب دخول الأراضى المصرية هى نقطة تقع غرب مدينة العريش بـ٣٧ كم، ترد فى الرواية باسم «محمية الزرانيق».
فى الصباح الباكر كنا على بوابة المحمية.. سور طويل يضم بضعة مبان تكسر حدة الطابع الصحراوى الذى يغلف المكان.. قال لنا الموظفون إن المحمية تعد الطريق الوحيد للعبور إلى منطقة «الفلوسيات» التى تضم آثاراً رومانية عبارة عن مستوطنة «تسمى أوستراكين»، وكنيستين قالت عنهما اللوحة الإرشادية المعلقة داخل المحمية إنهما ترجعان للعصر البيزنطي، وتفسر اللوحة الإرشادية سبب تسمية المنطقة بـ«الفلوسيات» بأن البدو من سكان المنطقة اعتادوا العثور فيها على العملات المعدنية الأثرية.
انتظرنا قليلاً لحين وصول أحد الباحثين بالمحمية ليصطحبنا إلى «الفلوسيات».. دفعنا رسوم الدخول، ورسوم عبور السيارة، واستخرج لنا الموظف المختص تصريحاً طلب منا إبرازه لحرس الحدود الموجودين فى منتصف المسافة بين «الفلوسيات» و«المحمية» قائلاً بلهجته البدوية «من غير التصريح ده مش هتقدروا تروحوا الفلوسية.. خلوا بالكم منه وأوعوا تضيعوه».
بعد أمتار قليلة قطعتها السيارة بسرعة انتهى الطريق المرصوف وبدأنا السير على مدق ترابى تحيط به مساحات شاسعة من بحيرة البردويل، قال عنه مرافقنا إن شركة النصر للملاحات التى تعمل على استخراج الملح من البحيرة هى التى أنشأته. وبعدما يقرب من عشرة كيلومترات قطعتها السيارة، طلب الباحث من سائقها التوقف، وأشار إلى منطقة تظهر للعيون قائلاً «هى دى الفلوسيات».
فى اتجاه إشارة الباحث كانت هناك تلة مرتفعة قليلاً لا يبدو منها سوى أكوام رمال، يستلزم الوصول إليها عبور مستنقع مائى يمتد لعدة أمتار، على قطع صغيرة جداً من الدبش تتراص على هيئة ممر طويل.. القطع زلقة، وناعمة، وغير ثابتة فى مكانها، وأى خطأ غير مقصود ستصبح نتيجته السقوط وسط المستنقع الملحى الذى يحيط بالمنطقة الأثرية.
لم نكد نعبر المستنقع ونسير فى اتجاه الآثار حتى فوجئنا بمن يجرى خلفنا ويطلب منا بلهجة بدوية التوقف، عرفنا الرجل الذى كان يرتدى جلباباً بنفسه بأنه خفير المنطقة المكلف من قبل الآثار بحراستها، شرح أن بالمنطقة حفريات أثرية تجرى بعلم موظفى الآثار، ولم يسمح لنا بالتصوير أو التجول فى المكان إلا بعد استئذان مديره الأثرى.. هاتفه أمامنا، وطلب منا محادثته لنشرح له ما نقوم به. وبعد أخذ ورد سمح لنا الأثرى بأن نقوم بما جئنا من أجله.
المنطقة كلها عبارة عن أطلال.. بضعة أعمدة رومانية ملقاة على الأرض يقول الخفير عنها إنها الكنيسة الأولى، ثم يشير إلى بناء متهدم يقع على الجانب الآخر، يفصله عنا مستنقع مائى قائلاً إنه الكنيسة الثانية، ويشير أخيراً إلى سور أثرى طويل تخفى الرمال جزءاً منه قائلاً إنه المستوطنة الرومانية.
لا يوجد فى المكان أى نباتات تؤكل باستثناء نبات غريب الشكل قال الخفير إن اسمه «بنكريشم»، النبات الوحيد الذى احتمل نسبة الملوحة العالية قائلاً عنه «البنكريشم ما يتاكلش ده بصولة يعنى زى البصل لما الواحد بطنه توجعه يغلى منه شوية ويشربهم يخف على طول». أما المياه العذبة فغير متوفرة، ويحملها الخفير لنفسه من بئر قريته فى عبوات بلاستيكية. هذه هى الفلوسيات.. التى تقول الرواية المسيحية إنها كانت المحطة الأولى فى رحلة العائلة المقدسة، فماذا عن المحطة الثانية.
من «الفلوسيات» إلى «الفرما».. المحطة الثانية لرحلة العائلة المقدسة.. قطعت بنا السيارة أكثر من ١٠٠ كم على طريق «العريش- القاهرة» قبل أن تظهر مشارف قرية بالوظة التى قالوا لنا إن مدخل «الفرما» يقع قريباً منها. على الطريق لا توجد أى لافتة تدل على وجود «الفرما»، وبعد عدة وصفات كادت بعضها تتسبب فى ضياعنا داخل الصحراء، وصلنا لبداية الطريق إلى «الفرما».
أوقفتنا نقطة شرطة الفرما على أول الطريق.. سألونا عن وجهتنا فأخبرناهم، وتطوع سائق سيارتنا ليشرح لهم مهمتنا بالكامل فطلبوا منا «الوقوف على جنب» حتى يقوموا بإبلاغ رؤسائهم بعد أن عرفوا أننا دخلنا سيناء وأمضينا ليلة فى العريش دون أن نبلغ الأمن بوجودنا. وطلبوا بياناتنا فأمليناها بالكامل.
أدخل أمين الشرطة رأسه داخل السيارة عبر النافذة ليتمكن من محادثة رئيسه فى الهاتف «علشان الشبكة برة مش كويسة»، وبعد أن أنهى المكالمة نقل إلينا القرار الباتر «مافيش مرور للفرما من هنا إلا بتصريح من الأمن».. سألناه: «أى أمن؟».. قال: «أمن شمال سينا.. يعنى تروحوا العريش تجيبوا تصريح وترجعوا تانى ندخلكم».. سألناه: «طب والبديل؟» أجاب: «تعدوا بقى كوبرى السلام وتدخلوا للفرما من بورفؤاد».
كانت العودة للعريش أسهل بالنسبة لنا، غير أن الوقت لا يعطينا هذه الرفاهية، والعودة للعريش تعنى ضياع يوم كامل نحن أحوج ما نكون إليه. طلبنا من الأمين أن يسمح لنا بمحادثة رئيسه لنشرح له أهمية موضوعنا، وأهمية الوقت بالنسبة لنا. وبعد محادثة قصيرة كان الطرف الآخر فيها لطيفاً إلى أبعد الحدود طٌلب منا أن ننتظر قليلاً حتى يتم إبلاغنا بالنتيجة.
انتظرنا لأكثر من ساعة ثم سمح لنا بالمرور بعد أن كادت الشمس تختفى من صفحة السماء. بعد أقل من خمسين متراً ظهرت لنا مشارف الفرما.. أطلال لمبان كثيرة جداً مبنية بالطوب الأحمر.. لا توجد أى لافتات إرشادية تدل على أى شيء، كما لا يوجد أثر لإنسان يسألنا عن أى شىء.. فقط مساحة شاسعة للغاية من أطلال المبانى.. غرف تحت الأرض.. سلالم وسراديب.. ممرات داخلية.. أعمدة رومانية.. ولا يوجد سقف واحد يغطى أى جدران.
فى الفرما تظهر أول إشارة لوجود كنائس بالمنطقة.. صلبان منحوتة فى قطع صخرية تستخدم كجزء من المبانى، أسعدنا وجودها وراح زميلى المصور يلتقط لها الصور من كافة الاتجاهات.. شعرنا أننا تائهون ولا نجد من يدلنا على شىء فهاتفنا سمير صالح البياضى أحد باحثى الآثار بسيناء،
وجاء صوته يخبرنا بأن هناك منطقة أخرى تحوى عدداً كبيراً من الكنائس تعرف باسم «تل الكنائس» أو «تل مخزن» موجودة على يسار الطريق، وهى أكبر من المنطقة التى نقف فيها، وبها آثار كثيرة، مشيراً إلى العمران والازدهار الكبير الذى كانت عليه المنطقة فى العصر الروماني، قبل أن يهجرها أهلها أواخر الدولة الفاطمية إلى مدينة الطينة التى تقع إلى الشمال الغربى منها، والتى قدر لها أن ترث الفرما تجارياً وحضارياً كما يقول البياضى. وأضاف قائلاً إن الدمار الذى لحق بالمدينة جاء خلال عدة عصور، أفظعها ما قامت به القوات الإسرائيلية أثناء احتلالها لشبه جزيرة سيناء عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧، حيث استخدمت اللوادر فى تدمير المدينة، وإيصالها إلى ما هى عليه الآن.
إلى المنطقة التى وصفها البياضى.. لا يوجد ما يدل عليها غير لافتة حديدية صدئة نقرأ عليها بصعوبة «المجلس الأعلى للآثار.. تطوير.. الفرما.. مسرح رومانى» فى حين تختفى كلمات كثيرة جداً من اللافتة تحت الصدأ، ولا يكتمل لها أى معنى.
فى الفرما لا صوت يعلو، ولا همسات تدور.. يصعب تخيل حياة كانت قائمة يوماً ما.. مبان كثيرة للغاية.. غرف وبقايا لمسرح تبدو درجاته واضحة تماما.. أسوار الحصن الكبير تصل فى بعض المواضع إلى متر ونصف المتر، بقايا الكنائس مبنية على هيئة صلبان، وآبار عميقة تمتد لأمتار تحت الأرض قيعانها مردومة بالأتربة والصخور.. فتحات كثيرة تختفى تحتها ووراءها بالتأكيد عوالم وتفاصيل.. شوارع وحارات، سلالم تقود لأسفل، وسراديب تقتضى الحرص فى التعامل معها.. كنز أثرى متروك فى الهواء الطلق.
غادرنا سيناء فى طريقنا لمحافظة الشرقية حيث نقطتين مهمتين رصدتهما المصادر المسيحية فى رحلة العائلة المقدسة.. قررنا أن نتتبع خط السير كما ورد فى المصادر ونزور فى البداية منطقة «تل بسطا» فى الصباح الباكر، نظراً لقدوم الليل، واحتياجنا إلى الراحة.
فى اليوم التالى رحنا نبحث عن أى كنيسة أثرية فى منطقة تل بسطا القريبة من مدينة الزقازيق، دلنا أهالى المدينة على كنيسة الأنبا أنطونيوس المبنية على الطراز الحديث قائلين إنها أكبر كنيسة فى المنطقة. رفض أحد العمال فى الكنيسة أن يساعدنا قائلاً «أبونا هو الوحيد اللى بيتكلم مع الصحافة وهو مش موجود»، فى حين تطوع عامل آخر وأخبرنا أنه سيتصل براعى الكنيسة وسيعرض عليه الأمر.
عبر الهاتف جاء صوت القمص دانيال مرحباً بفكرة التحقيق، موضحاً أن بعثة أثرية تمكنت مؤخراً من اكتشاف البئر التى أنبعها السيد المسيح، وشرب منها وباركها أثناء زيارة العائلة المقدسة لمنطقة تل بسطا الأثرية، مشيراً إلى أن هناك عدداً كبيراً من الأهالى يتبركون بمياه البئر، وتحدث لهم معجزات بسببها، وأنه فور دخول العائلة المقدسة للمدينة حدث أن سقطت تماثيل الآلهة التى كان يعبدها المصريون فأساءوا معاملتهم. وأضاف قائلاً إن الكنيسة كانت قد أعدت كتيباً صغيراً عن زيارة العائلة المقدسة لتل بسطا ذكرت فيه الحكاية كاملة، وعرض أن يمدنا به بعد عودتنا من المنطقة الأثرية التى قال عنها إنها على بعد أمتار قليلة حتى نصور البئر الموجودة هناك.
فى مكتبه بمنطقة آثار الشرقية رحب بنا هشام عبدالمؤمن مدير المنطقة، عارضاً لنا فى نبذة مختصرة تاريخ منطقة تل بسطا الأثرية التى قال عنها إنها كانت صاحبة أهمية كبرى فى التاريخ نظراً لكونها عاصمة البلاد أثناء حكم الأسرة الثانية والعشرين، فى حين اقتسمت الحكم مع مدينة تانيس المعروفة حالياً بصان الحجر أثناء حكم الأسرة الثالثة والعشرين.
ولأن أفرع النيل فى الدلتا قديما كانت تصل لسبعة كما يقول عبدالمؤمن، أحدها كان الفرع «البوبسطى» يمر على المدينة التى خصصت لعبادة الإلهة باستت الممثلة فى شكل قط جالس، والتى جاءت منها التسمية القديمة للمدينة «برباستت» أى معبد أو بيت باستت، مشيراً إلى أن المنطقة الأثرية تحتوى على معبد كبير جداً خصص لعبادة هذه الإلهة، وأن المؤرخ اليونانى هيرودت الذى زار مصر عام ٤٥٠ ق.م قد ذكر فى مؤلفاته احتفالات باذخة تقام للإلهة باستت فى المدينة.
ويتابع عبدالمؤمن قائلاً إن علماء الحملة الفرنسية كانوا أول من أشاروا لآثار تل بسطا، قبل أن تجرى فيها حفريات فى عام ١٨٦٠م، وهى الحفريات المستمرة حتى الآن، والتى أسفرت عن اكتشاف مدينة كاملة تحتوى على قصور ومعابد ومنازل وشوارع ومحلات، ومؤخراً تم اكتشاف تمثال لميريت أمون ابنة رمسيس الثاني، كل هذا ولا يزال ما يقرب من ٣٠ فداناً من جملة ١٢٠ فداناً هى مساحة آثار تل بسطة لم تجر بها حفائر بعد.
الحديث عن الحفائر جرنا للسؤال عن البئر التى حدثنا عنها راعى كنيسة الأنبا أنطونيوس، والذى قال إنها البئر التى أنبعها السيد المسيح وقت زيارته لمنطقة تل بسطا، وهو ما نفاه عبدالمؤمن مؤكداً أن البئر التى اكتشفت أواخر التسعينيات والمبنية على الطراز الرومانى كانت مقامة فى الأساس لخدمة معبد الإلهة باستت، وهو تقليد قديم متبع فى كافة مناطق الآثار، أن تحفر الآبار داخل معابد الآلهة.
وأشار عبدالمؤمن إلى أن تحليل مياه البئر الذى جرى فى معامل كليات جامعة الزقازيق أثبت أن المياه غير صالحة للاستخدام الآدمي، وليس للاستهلاك، نظراً لأنها مياه غير متجددة، ولأنها ظلت فترة طويلة مطمورة تحت التراب والصخور.
غدا فى الحلقة الثانية
فى وادى النطرون وسمنود.. عين مياه عذبة وسط الملاحات يتبرك بها الأهالى.. وماجور حجرى يتمسح فيه الزائرون